كان يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023 تاريخ الولادة الثانية للمقدسية مرح بكير، التي حُررت بصفقة التبادل بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل بعد اندلاع الحرب على غزة بأسابيع، وسُجل في 25 من شهر يناير/كانون الثاني المنصرم الولادة الثانية أيضا للمقدسي عمر الشريف الذي تحرر في صفقة التبادل الثانية، وكلاهما من بيت حنينا بالقدس المحتلة.
في ذلك اليوم رأى عمر الشمس للمرة الأولى دون سياج السجن الذي يحجب أشعتها بعد 21 عاما ونصف من الاعتقال، ورأت مرح أشعتها بعد 8 أعوام من الأسر، وشاءت الأقدار أن يدخلا قفص الزوجية في منفى عمر المؤقت بمصر بعد إصرار الاحتلال على إدراج اسمه في قائمة المبعدين.
في الحوار الخاص الذي أجرته الجزيرة نت مع الزوجين المحررين تحدثت مرح عن تغير نظرتها للحياة بعد التحرر وصعوبة الاندماج في المجتمع، وتحدث عمر عن مرارة المنفى وعن الدولة العربية التي يأمل أن ينتقل ومرح للعيش بها في المستقبل القريب.
وتطرق كلاهما إلى التواصل الذي حصل بينهما داخل السجن بصفتهما ممثلين عن الأسرى، وكيف زرع هذا التواصل البذرة الأولى في طريق الارتباط.

وتاليا نص الحوار كاملا:
إعلان
-
كيف يتواصل ممثلو الأسرى مع بعضهم داخل السجون، وما أهمية ذلك؟
عمر: كنت أعمل في إحدى اللجان المسؤولة عن التواصل مع الفئات الضعيفة، (الأسرى المعزولون والمرضى في مستشفى سجن الرملة والأسيرات)، وهذه اللجنة كانت إحدى اللجان التابعة للهيئة القيادية العليا لأسرى حماس داخل السجون، ومهام جميع اللجان التخفيف من معاناة الأسرى عبر تنظيم حياتهم ومواجهة التحديات بشكل جماعي منظم.
وكانت مرح ممثلة الأسيرات وحصل تواصل بيننا في أواخر عام 2019 من أجل مسائل قانونية تدخل في إطار نشاطي.
اقتصر التواصل بيننا على مسائل إدارية أتاحت لنا تعارفا أوليا، وهذا التعارف شكل انطباعا لدى كل منا عن الآخر، ونحن بصدد إعداد كتاب يوثق تجربتنا سنفصل فيه ذلك لاحقا إن شاء الله.
-
هل دفع هذا التواصل بأحدكما للتفكير يوما ما بالارتباط بالآخر؟
عمر: نعم من الطبيعي أن يفكر الإنسان بأي شخص يتعامل معه ويسأل نفسه إلى أي حد يريد تطوير هذه العلاقة، والحقيقة أن الأمر بدأ من عند مرح، ولم يتطور إلى مراسلة حقيقية ينتج عنها موقف.
مرح: بدأ الأمر عندما نشأت فكرة تحمل في طياتها الكثير من العمق والتساؤلات، وحمل هذا التواصل شيئا مختلفا، لكنه ظل أسير المساحة غير المعلنة، ولم يتجاوز حدود التفكير إلى أفعال حقيقية.
ربما كان يحمل احتمالات صامتة، لكنه ظل جزءا داخليا من رحلة شعورية خاصة، دون أن يتحول إلى موقف واضح.

-
كيف يؤثر السجن على تفكير الإنسان في موضوع الزواج، هل يفكر بمواصفات الشريك بشكل يختلف عن أولئك الذين لم يعيشوا تجربة السجن؟
عمر ومرح: تجربة السجن تحمل تأثيرات نفسية عميقة ومعقدة قد تغير نظرة الفرد للحياة بشكل جذري بما في ذلك موضوع الزواج.
إعلان
السجن يضع الإنسان في مواجهة معزولة مع ذاته، حيث تتكثف لحظات التأمل وإعادة التقييم للأولويات والقيم، وهذه العزلة قد تولد حاجة مُلحة للتواصل الحقيقي والدعم العاطفي، مما يدفع الإنسان إلى النظر للزواج بشكل مختلف فيها مساحة للشفاء والتكامل النفسي، لا علاقة تقوم على الانجذاب أو التوافق السطحي فقط.
قد يصبح الشخص الذي خرج من السجن أكثر وعيا بهشاشته البشرية وبحاجته إلى شريك يُظهر تفهما عميقا لصراعاته الداخلية، وربما يبحث عن شخص قادر على احتواء معاناته ودعمه في إعادة بناء ذاته بعيدا عن الأحكام المسبقة.
وتدفع تجربة السجن الإنسان إلى تقدير القيم الجوهرية مثل الإخلاص والتعاطف والصبر، بدلا من المعايير المجتمعية السائدة، كما أنها تُعيد تشكيل مفاهيم الإنسان حول العلاقات الإنسانية، بما في ذلك فكرة الزواج، على مستويات عميقة.
يُجبر الإنسان في السجن على مواجهة ذاته، والتفكير في طبيعة الزمن والوحدة، والقيمة الحقيقية للعلاقات التي تبقى أو تختفي مع مرور الأحداث، وهذا التأمل يمكن أن يقود الفرد إلى استبصار حول الزواج، ليس كمجرد ارتباط اجتماعي أو شخصي، بل كالتزام يتجذر في المفاهيم الجوهرية للتفاهم والمشاركة.
وعلى المستوى الأعمق، قد يرى البعض أن السجن يجعل الإنسان يتساءل عن جوهر العلاقة الإنسانية: هل هي مظهر، أم فعل يتجسد في التضامن الحقيقي؟ ومن هنا يمكن أن يصبح الزواج بالنسبة للبعض رحلة فلسفية تعكس محاولة لفهم الذات من خلال الآخر، وربما البحث عن المعنى الأوسع للروابط البشرية.

-
هل تغيرت نظرتك للحياة بعد التحرر مرح، وهل كان من الصعب الاندماج مجددا في المجتمع؟
بعد التحرر، وجدت نفسي أواجه واقعا مشحونا بالتحديات التي تتخطى الحدود الشخصية إلى المستوى المجتمعي والسياسي.
إعلان
القيود التي فرضها الاحتلال، من مراقبة دقيقة ومنع للحركة بحرية، لم تكن مجرد عراقيل، بل رسائل واضحة بأن الحرية التي نلتها ليست مطلقة، بل مشروطة ومحاصرة، وهذه القيود وضعتني في مواجهة مباشرة مع سؤال الحرية الحقيقي ومعناه.
على الصعيد الاجتماعي لم تكن التحديات أقل حدة، وشعرت بأن تجربتي داخل الأسر صنعت جدارا غير مرئي بيني وبين الآخرين، فالبعض تردد في الاقتراب مني أو التعامل معي، ربما بدافع الخوف من التواصل معي تحت أعين الاحتلال، أو بدافع عدم فهم عمق التجربة التي مررت بها، وحتى في اللحظات العادية، كانت التفاعلات الاجتماعية تبدو لي وكأنها اختبارات مستمرة لقدرتي على التكيف مع عالم تحرك بسرعة أثناء غيابي.
على المستوى الداخلي، كانت المواجهة الأعقد هي إعادة تعريف هويتي في ظل كل هذه التغيرات.. كيف أجد لي مكانا بين ماضٍ يحمل ثقل الأسر وحاضر يتطلب استيعاب التحديات اليومية دون أن أفقد تلك القيم التي شكلتني؟
هذه الرحلة ليست مجرد اندماج في مجتمع، لكنها إعادة صياغة لتجربة إنسانية عميقة، والتحرر بالنسبة لي لم يكن نهاية القيد، بل بداية لمعركة جديدة في سبيل استعادة الحياة ومعناها الحقيقي.
-
كيف يعيش عمر الآن حياته في الإبعاد القسري وما خطواتك القادمة؟ أين ترغب أن تكون الوجهة؟
الإبعاد صعب، والحنين إلى القدس والمسجد الأقصى يلازمني، ويؤلمني أن أتحرر ويبقى وطني ومسقط رأسي مغتصبا، لكنني أرى العودة قريبة، فكما كان الاحتلال واهما عندما اعتقد أنني سأمكث في السجن طيلة حياتي، هو واهم أيضا في بقائه على أرضنا، وهذا ما يحدثنا به القرآن الكريم والتاريخ.
تستضيفنا الآن جمهورية مصر، وظروفنا ليست ظروفا طبيعية، بل هي ظروف الضيف أو اللاجئ، ونسعى للاستقرار في إحدى الدول العربية، وقطر هي الدولة المرشحة إلى حين عودتنا إلى وطننا وهو طاهر دون رجس أو دنس.

-
كيف فكرت بالتقدم للزواج من مرح بعد التحرر؟
إعلان
في السجن لم أكن أعرف شكل مرح، إلا ما نشر على وسائل الإعلام من حادث اعتقالها، ولكن لفت انتباهي شخصيتها القوية أمام إدارة السجون من خلال ما يُتناقل عنها، وكذلك أثناء حديثها مع الممثلين من الهيئة القيادية لأسرى حماس.
وعندما أفرج عني في صفقة التبادل إلى مصر تابعت ما وثقه الإعلام لحظة الإفراج عنها، وكانت هذه المرة الأولى التي أراها بها بوضوح، فهممت أن أطرق بابها، فاستشرت واستخرت وارتحت.
في 27 مارس/آذار الماضي تحدثت مع أهلها بهدف التعارف، وفي 17 أبريل/نيسان الماضي تزوجنا، واخترنا يوم الأسير الفلسطيني ليكون ذكرى زفافنا لأن هذا اليوم يحمل في طياته معاني الصمود والحرية التي تجمعنا كشعب واحد.
يوم الأسير ليس يوما عابرا، بل هو شهادة على إيماننا الراسخ بأن القيد يعزل الجسد ولا يستطيع قهر الإرادة، وأن الأمل يولد من رحم الألم، ففي هذا اليوم نحتفل بانتصار الروح على السلاسل، ونجدد العهد بأن كل حق مغتصب لا بد أن يستعاد، وأن لكل أسير يوما سيكون فيه حرا.
كيف كانت رحلتك من القدس إلى مصر؟ وهل كان من الصعب على مرح اتخاذ قرار الارتباط بمحرر مبعد قد يكون ثمنه عدم العودة إلى القدس؟
كانت رحلة مليئة بالتحديات، أصعبها بعدي عن القدس والاستقرار خارج الوطن.. اتخاذ قرار الارتباط بمحرر مبعد ليس بالقرار السهل ويحمل تحديات كبيرة، أقساها البعد عن الوطن والأهل والأصدقاء والأحباب، والتكيف بدولة ذات ثقافة جديدة.
ما أراه مهما الآن هو التحلي بالصبر والقوة، فبعد 22 عاما قضاها عمر داخل الأسر يستحق الآن أن يبدأ حياة جديدة كريمة، وهو شخص يستحق كل هذه التضحيات لأخلاقه وحسن تعامله وثقافته وصبره غير المحدود.
اتخاذ قرار الارتباط منبثق من تفكير عميق جدا والاستخارة لفترة طويلة، والحمد لله كان التوفيق من الله كبيرا، فقد تسهلت جميع أمورنا، وقررنا بعد لقاء لمدة أسبوع بحضور عدد من أفراد العائلة أن نتجه للزواج.. الحمد لله على اختياراته لنا، وعمر يستحق كل شيء جميل.
عمر الشريف أسير مقدسي محرر، من بيت حنينا بالقدس المحتلة، اعتقل عام 2003، وحكم عليه بالسجن المؤبد 18 مرة، بتهمة الانتماء لكتائب القسام، والمشاركة في عملية "الحافلة رقم 14″، التي أسفرت عن مقتل 18 مستوطنا وجرح 105 آخرين، والتي جاءت ردا على محاولة اغتيال القيادي السابق في حركة حماس… pic.twitter.com/vTQE3T022K
— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) January 31, 2025
-
ما الذي لفت انتباه كل منكما في شريكه؟
إعلان
عمر: لفت انتباهي شخصية مرح القوية أولا، لأن إدارات السجون كانت تنقل لنا أحاديث عن مواقفها وعنادها، وكذلك أحاديثها مع الهيئة القيادية لأسرى حماس، وأنا كمبعد أحتاج لشريكة حياه قوية تتحمل صعوبات الغربة.
وبعد الإفراج عني لفت انتباهي ما وثقه الإعلام عنها يوم الإفراج عنها، وكانت تلك المرة الأولى التي أراها بها بوضوح، والحقيقة أرى أن التجربة والثقافة المشتركة عاملان مهمان لنجاح الحياة الزوجية، أنا ومرح مررنا بذات التجربة وننتمي إلى ذات الفكر والثقافة.
مرح: حين التقيتُ بعمر بعد التحرر، كان اللقاء مليئا بشعور مختلف تماما عما تصورته أثناء غيابه، ففي حضوره ظهرت تفاصيل أعمق تعكس الصبر والإرادة التي حملتها الأيام، وطريقته في النظر إلى العالم والتحدث عن تجربته رسمت صورة لشخص تجاوز كل ما مر به بطريقة مذهلة.
كان اللقاء يختزل مشاعر غامضة ومفهومة في آن واحد، وكأن غيابه لم يكن مجرد غياب، بل اختبار لصبري ومشاعري، وما رأيته فيه كان أكثر من شخص تغلب على الأسر، كان روحا تحمل في صمتها الكثير من الحكايات التي لا تزال تُروى.
اللحظة بيننا كانت أشبه بلقاء مع الذات، مليئة بالوضوح والصمت الذي يحمل معاني أعمق من أي تفسير، وكأن الإجابة على كل تساؤل جاءت فقط من خلال وجوده.
-
بما أنكما أسيران محرران كيف يمكن نصرة قضية الأسرى، وكيف ستبقى معاناتهم حاضرة في حياتكما؟
عمر ومرح: نصرة قضية الأسرى ليست مجرد واجب نؤديه، بل هي جزء أصيل من حياتنا التي تشكلت داخل الأسر وما بعده، نحن كمحررين ورغم مما نراه من صمت العالم عن نصرة شعبنا وكف يد البطش عن أهلنا في غزة، فإننا يجب أن نرفع الصوت وسط صخب الحرب لأن الأسرى اليوم يعيشون عذابات يومية، ويتمنى بعضهم الشهادة كما أرسلوا لنا من فرط التعامل السيئ الوحشي الهمجي وغير الإنساني.
إعلان
لذلك فإن الحد الأدنى المطلوب هو وقف التعذيب، ووقوف كل من يملك قوة وتأثيرا عند مسؤولياته وعند ضميره.
نصرتنا لهم تبدأ من التوثيق الدقيق لتجاربنا وتجاربهم، ونقلها إلى العالم بصدق ووضوح، كي تصبح صوتا لا يمكن تجاهله، الأهم من هذا كله، أن نحول معاناتهم إلى قوة تغيير حقيقية من خلال العمل على رفع وعي الأمة، ودفعها نحو تحمل مسؤولياتها تجاه هذه القضية، التي نستطيع إبقاءها حية، ومنحها زخما لا يتراجع.
لماذا يطالب العالم بالجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس ويتجاهلون أسرانا لدى الاحتلال؟ لقد نجح العدو من خلال قلب الحقائق في إبراز قضية أسراه وكأنهم أصحاب الأرض الأصليين وتصويرنا كأسرى فلسطينيين على أننا غرباء معتدين.
الأصل أن نعمل على مستويات الدبلوماسية الشعبية وليس الدبلوماسية الرسمية فقط التي تتماهى مع الاحتلال، ستبقى معاناتهم جزءا منا، محفورة في تفاصيل حياتنا اليومية، تقودنا نحو الالتزام المستمر بحريتهم، لأنها ليست فقط معركتهم، بل هي معركة العدالة والكرامة الإنسانية.
عقد المحرران المقدسيان عمر الشريف ومرح باكير قرانهما في جمهورية مصر، الأسبوع الماضي، تزامنا مع يوم الأسير الفلسطيني.
وتحرر الشريف في صفقة طوفان الأحرار بين المقاومة في غزة والاحتلال الإسرائيلي في شهر يناير من العام الجاري 2025، بعد قضائه 22 عاما داخل سجون الاحتلال، وأبعدته إلى… pic.twitter.com/MxNHi4eMt5
— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) April 24, 2025
-
إذا رزقتكما بمولود ذكر ماذا ستسميانه، وماذا إذا رُزقتكما بأنثى؟
مرح: حين بدأنا التفكير في اسم طفلنا القادم، توقفنا أمام اسم "صالح" بحب وتأمل.. لم يكن مجرد اسم عابر، بل هو جزء من ذاكرة عزيزة وحلم قديم، ولطالما لَقب الأسرى عمر بـ "أبو صالح" كونه الابن الأكبر لوالديه، وكان حلم والده الذي توفي وهو في الأسر أن يرزق أحد أبنائه بصالح، وإن تحقق هذا الاسم في حياتنا، ستكون الفرحة مضاعفة، تحمل معها تحقيق أمنيات غالية ومعانٍ أعمق من الكلمات.
إعلان
أما بشأن اختيار اسم لابنتنا، فما زلنا في رحلة البحث عن اسم يحمل في طياته قيما ومعاني سامية، ومن بين الخيارات التي تلامس أرواحنا يبرز اسم "مريم"، ويلامسني أنا خاصة لما يحمله من قدسية ونقاء، تيمنا بسيدتنا العظيمة مريم التي جسدت أروع معاني الإيمان والقوة والعفة والطهارة.
اختيار الأسماء بالنسبة لنا ليس مجرد قرار، بل هو امتداد لحكاياتنا، وأمل بأن يحمل المستقبل معاني تضاهي عمق هذه الأسماء وقيمتها.
0 تعليق