الإعلام على الطريقة "الترامبية"! - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

منذ الأيام الأولى لتولّيه رئاسة الولايات المتحدة، أثبت دونالد ترامب أنه رئيس غير تقليدى، خاصة فى تعاطيه مع الإعلام. فقد أبدى استعدادًا استثنائيًا للتفاعل مع الصحفيين إلى درجة أن تقارير إعلامية ذكرت أنه أجاب عن أكثر من ألف سؤال خلال شهره الأول فى البيت الأبيض، وهو رقم يفوق بكثير ما سجّله أسلافه فى الفترة نفسها.


وبعد مرور مئة يوم على تسلّمه المنصب، يتضح أن ما يميّز ترامب لا يقتصر على كثافة ظهوره الإعلامى، بل يشمل أيضًا قدرته على تحويل الإعلام إلى أداة لبناء «علامة سياسية» تحمل اسمه، تتجاوز الإطار المؤسسى للسلطة وتخاطب الجمهور بلغة استعراضية لا تخلو من الصخب والإثارة.


لطالما حذّرت القواعد التقليدية فى العمل السياسى من الإفراط فى الظهور الإعلامى، خشية أن يؤدى ذلك إلى تآكل الهيبة الرمزية و«احتراق» الصورة العامة. فالشخصيات الكبرى فى التاريخ السياسى بُنيت على الندرة والغموض والمسافة المحسوبة مع الجمهور.


لكن ترامب، كعادته، قلب المعادلة. لم يؤمن بفكرة الاقتصاد فى الظهور، بل جعل من كثافة الحضور الإعلامى أداة استراتيجية. قرر أن يكون حاضرًا فى كل لحظة، وعلى كل شاشة ومنصة. ومع أنه نسف القالب الكلاسيكى للرئيس الأمريكى، فقد ابتكر قالبًا جديدًا يحمل بصمته الشخصية: زعيم صاخب، مستفز، دائم الحضور، لا يمكن تجاهله.


فعليًا، دفع ترامب كل الأطراف- خصومه، والإعلام، والمشهد السياسى بأسره- إلى التعامل مع النموذج الذى فرضه بدل تجاوزه. لذلك، لا يمكن اختزال الإجابة عن سؤال: «هل أفرط ترامب فى الظهور؟» بـ«نعم» أو «لا»، لأن مفهوم «الإفراط» هنا مرتبط بالسياق وبطبيعة الشخصية.


بالنسبة لترامب، لم يكن الظهور الكثيف خطأ، بل جوهر الاستراتيجية. لم يظهر ليشرح السياسات أو يطلب التعاطف، بل ليحافظ على حضوره فى قلب الجدل وتحت الأضواء وفى ذاكرة الرأى العام، سواء أحبه الناس أم كرهوه. ففى الثقافة السياسية التقليدية كان هذا يُعد «حرقًا للصورة»، أما فى عصر الإعلام الرقمى فالصورة تُبنى على البقاء فى العناوين، لا على التقييمات.


أدرك ترامب مبكرًا أن الجدل هو أقصر طريق للحصول على التغطية الإعلامية. ففى حملته الانتخابية عام 2016 قدّرت بعض الدراسات أن التغطية المجانية التى حصل عليها تجاوزت قيمتها مليارى دولار، بفضل تصريحاته المثيرة وسلوكياته الخارجة عن المألوف. هذا النهج مكّنه من تحقيق تأثير واسع دون إنفاق مبالغ ضخمة، على عكس منافسيه.


لم يكن ترامب ينتظر أن يكون موضوعًا للتغطية، بل كان يصنع الحدث بنفسه. ومن خلال هجماته المتكررة على خصومه السياسيين، وابتكاره ألقابًا لاذعة مثل «Sleepy Joe» و«Crooked Hillary»، أبقى اسمه فى صدارة التغطية الإخبارية وفرض إيقاعه على الأجندة.


لم يعد الإعلام بالنسبة له مجرد منبر للخطاب، بل خصمًا مباشرًا. فوصْفه المتكرر لوسائل الإعلام بأنها «أعداء الشعب» لم يكن مجرد تصعيد بلاغى، بل ركيزة فى استراتيجيته السياسية. لقد نجح فى خلق جدار نفسى بين جمهوره والإعلام التقليدى، ما جعل من مهمة المحاسبة الإعلامية تحديًا فعليًا.


وفى المشهد السياسى الأمريكى المعاصر، يتجلى الإعلام كأداة لا غنى عنها للقيادة وصناعة الرأى العام. وعند مقارنة ثلاث رؤى رئاسية مختلفة، نلاحظ أن ترامب تبنّى نهج المواجهة والجدل والحضور اللحظى للسيطرة على السرد الإعلامى، بينما اعتمد باراك أوباما خطابًا عقلانيًا متزنًا وإعلامًا رقميًا لبناء صورة القائد العصرى الجامع، فى حين فضّل جو بايدن الظهور المحسوب والخطاب المنضبط، متجنبًا التصعيد رغم استخدامه المدروس للإعلام الرقمى.

 

يتجلى ذكاء ترامب وتخطيطه فى تعامله مع وسائل التواصل الاجتماعى من خلال استثمارها بشكل استراتيجى لأهداف متعددة، من أبرزها دعم الصناعة الإعلامية وتعزيز أرباحها، إلى جانب سعيه لتوسيع نفوذه من خلال التعاون مع المؤثرين الرقميين. وقد أدرك مبكرًا أن هذه المنصات أصبحت القناة الأهم للوصول إلى الأجيال الشابة، ما يعكس قدرته على استيعاب تحولات المشهد الإعلامى وتوظيفها بذكاء فى خدمة مشروعه السياسى.


وتبرز شراكته مع المؤثرين الرقميين كدليل على فهمه العميق لتحول موازين القوة الإعلامية من الوسائل التقليدية إلى المنصات الرقمية، حيث بات هؤلاء المؤثرون يشكلون جسورًا فعالة للوصول إلى فئات واسعة من الجمهور، لا سيما الشباب الذين تراجع اعتمادهم على التلفاز والصحف لصالح المحتوى الرقمى. وقد مكّنه هذا التعاون من إيصال رسائله بطريقة غير مباشرة وأكثر قربًا من المتلقى، ما ساهم فى ترسيخ أفكاره وبناء صورة ذهنية أكثر ألفة لدى الجمهور.


وباعتماد هذا النهج، حوّل ترامب المؤثرين إلى أدوات تأثير سياسى خارج القنوات الرسمية، مستفيدًا من عفويتهم ومصداقيتهم لدى المتابعين. وبهذا، تمكن من تعزيز حضوره السياسى وتوجيه الرأى العام بطريقة مرنة تتجاوز الأساليب الإعلامية التقليدية


إن دونالد ترامب ليس مجرد سياسى يُجيد استخدام الإعلام، بل هو مهندس لمرحلة جديدة فى العلاقة بين السلطة والمنصة. لقد حوّل الإعلام من وسيلة نقل إلى أداة صراع، ومن منبر خطاب إلى ساحة معارك مفتوحة. وفى عصر تتداخل فيه الحدود بين الواقع والاستعراض، يبقى ترامب نموذجًا مثيرًا للجدل لقائد أدرك أن السيطرة على السرد الإعلامى قد تكون أكثر تأثيرًا من السيطرة على مؤسسات الدولة نفسها.


ويبقى السؤال: هل سيدفع ترامب ثمن هذا الإفراط على المدى البعيد، أم أن عصر «الزعيم الهادئ» قد أصبح جزءًا من الماضى؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق