‏في ذكرى رحيله.. بدر بن عبدالمحسن.. إعادة تشكيل الهوية الموسيقية - نجد الاخبارية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
الشاعر الحقيقيّ ليس مُجرَّد ناظمٍ للقصائد، بل هو مهندسٌ يشيد عوالمَ من المجاز، ويُرسي قواعدَ لغةٍ جديدةٍ، لغة، تتسلل إلى الأعماق كندى الصباح. في المملكة العربية السعودية، حيث تتقاطع أصوات التاريخ مع أنفاس الحداثة، ظلّ بدر بن عبدالمحسن (1949–2024) كاسمه، بدراً، يُنير سماءَ الكلمة، ويُعيد تشكيلَ ملامح الأغنية السعودية عبر عقود، ليكون أحد أبرز مَنْ حوّلوا الشعرَ من نصٍ مكتوب إلى نغمةٍ تحمل أحلام الناس وتاريخ الأرض.

إن الحديث عن بدر بن عبدالمحسن لا ينفصل عن سياقه العربي الأوسع؛ فكما قدّمت بلاد الشام ثنائيَ الأسطورة الرحابنة، وشاعرَها المبدع جوزيف حرب، وأنجبت مصرُ عمالقةَ الكلمة مثل بيرم التونسي وعبدالوهاب محمد، فإن السعودية قدّمت شاعراً استطاع بجرأته أن يختزل مسافةً بين التراث والحداثة، ليرتقي باللهجة المحكية إلى مصافّ الشعر الخالد. لم يكن بدر مجرد شاعرٍ يكتب للأغنية، بل كان مهندساً للهوية؛ فكلماته - كخيطٍ ذهبيّ - ربطت بين عمق الصحراء وتحولات الحضارة، مُحوِّلاً الغناء السعودي من فنٍّ محلي إلى ظاهرةٍ ثقافيةٍ عابرةٍ للحدود.

في مطلع السبعينات، حين كانت السعودية تخطو نحو تحوّلاتٍ مجتمعيةٍ وثقافيةٍ جذرية، ظهر بدر بن عبدالمحسن بخطابٍ شعريٍّ مُغاير، لم يُقلّد النموذجَ الكلاسيكي ولا التقليدي، بل ابتكر لغةً خاصّةً تجمع بين سلاسة اللهجة العامية ورقّة الشعر الفصيح. في قصائده الأولى، مثل «نام الطريق» و«لا تردين الرسائل»، بدا وكأنه يخاطب الوجدانَ بلغةٍ لم نعرفها من قبل؛ لغةٍ تتنفس الانزياحاتِ المجازيةَ دون تكلف، وتستحضرُ صوراً من الحياة اليومية لتحوّلها إلى استعاراتٍ كونية.

لقد نجح بدر في تحرير الأغنية السعودية من قيود الخطابية المباشرة، فلم يعد الحبُّ مجردَ شوقٍ أو فراق، بل صار«رمضاءَ» تُحرق القدمَ الحافية، و«صحراءَ ظمأ» يرعاها البدوُ بالإبل والغنم. هكذا حوّل الكلمةَ إلى مشهدٍ سينمائيٍّ، وإلى لوحةٍ تشكيليةٍ تلامسُ الحواسَّ قبل العقل.

لم يكن تأثير بدر بن عبدالمحسن مقتصراً على الشعراء، بل امتدّ إلى الملحنين والمطربين الذين وجدوا في نصوصه موسيقى داخليةً، تنتظرُ من يكتشفها. فقصائدُه - بتركيبتها الإيقاعية - كانت تُلهم الملحنَ كيف يسير، وكأنها تُخطّطُ لهندسة اللحن قبل أن يُولَد. حين تُغنّى قصيدة «ارفض المسافة»، أو «جمرة غضى»، لا تعود الكلماتُ حروفاً، بل تتحول إلى نهرٍ من المشاعر ينساب بين حناجر المطربين، من طلال مداح إلى محمد عبده، ومن عبادي الجوهر إلى أصالة.

هذا التفاعلُ بين الشعر واللحن جعل الأغنية السعودية فنّاً له فرادته، حيث تذوب الحدودُ بين الشاعر والملحن والمغني، ليخلقوا معاً عملاً يتجاوز الزمن.

في زمن البحث عن ملامح للأغنية السعودية، استطاع بدر بن عبدالمحسن أن يصوغ ذاكرةً جمعيةً للسعوديين والخليجيين عبر قصائده. لقد حوّل التفاصيلَ الصغيرةَ - كرسائل الحب، وعبور الرمال، وحتى دموع الفراق - إلى رموزٍ تختزلُ حكاياتِ شعبٍ بأكمله. قصيدته «من على الرمضا مشى حافي القدم» ليست مجردَ بيتٍ شعري، بل هي تعبيرٌ عن صمود الإنسان في وجه قسوة الجغرافيا، و«من رعى صحرا الظما ابل وغنم» ليست سرداً بل تراجيديا وجوديةً عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة.

هذا الارتباطُ العضوي بين شعره والهويةِ جعله رمزاً له عبقريته الخاصة، حتى أن رحيله في مثل هذه الأيام من العام الماضي أشعلَ سؤالاً جوهرياً: من سيروي عطشَ المريدين الآن؟ وكأننا نستعير من أبي فراس الحمداني بيته المشهور «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر».

رحل بدر بن عبدالمحسن جسداً في العام 2024، لكن إرثَه الشعري - كالنهر الذي وصفه محبوه - سيظلُّ يجرى عبر الأجيال. لقد أثبت أن الشاعرَ الحقيقيَّ لا يموت، طالما أن كلماته تُغنيها الشفاه.

اليوم، وقد تحوّل البدرُ إلى أسطورة، تبقى كلماتهُ شاهداً على أن الشعرَ ليس ترفاً، بل هو ضرورةٌ وجودية، تُعيد تشكيلَ العالم كلّما أغرقته الظلمة. وهكذا، سيظلُّ بدرٌ - شاعراً ومهندساً - يرفعُ سقفَ الكلمة السعودية نحو آفاقٍ لا تُرى إلا بعينِ القلب.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق