غالبا ما يستخدم وصف "زلزال كروي" للتعبير عن الفرحة الجماهرية العارمة بفوز فريق، غير أن هذه العبارة لم تعد مجازية بالكامل، فما يحدث في الملاعب من احتفالات جماهيرية قد يتحول فعليا إلى زلازل صغيرة يمكن قياسها، وهو ما أثبتته تجربة علمية أجريت مؤخرا، في أثناء مباراة حسم الدوري الإنجليزي بين ليفربول وتوتنهام.
ورغم أن التجربة التي أجراها علماء من جامعة ليفربول، ليست جديدة في حد ذاتها، فإنها كانت مناسبة لإعادة التأكيد على ما سبق أن أثبته علماء آخرون، من أن مدرجات كرة القدم قد تصبح معملا مفتوحا لدراسة الزلازل، وفرصة للتأكيد على أهمية ملاحظة الفارق بين الزلازل الطبيعية والمستحثة، كما قال خبير متخصص بالزلازل في تصريحات خاصة للجزيرة نت.
وكانت بداية الالتفات لهذا الفرع من دراسة الهزات الأرضية عام 1988، عندما لاحظ دون ستيفنسون، الباحث في هيئة المسح الجيولوجي بولاية لويزيانا، صباح اليوم التالي لمباراة كرة القدم الأميركية بين فريقي جامعتي لويزيانا وأوبورن، وجود إشارات غير معتادة على جهاز السيسموغراف الموجود في مجمع "هاو-راسل" للعلوم الجيولوجية، والذي يبعد نحو 500 متر فقط عن ملعب "تايغر ستاديوم".
تبين لاحقا أن هذه الإشارات تزامنت تماما مع لحظة تسجيل اللاعب إيدي فولر لهدف الفوز في الدقيقة الأخيرة من المباراة، مما أدى إلى احتفال جماهيري صاخب تسبب في اهتزازات أرضية سجلها الجهاز.

مصطلح "الزلازل الجماهرية"
هذا الحدث غير المتوقع ألهم الباحثين في جامعة ولاية لويزيانا لمواصلة مراقبة الاهتزازات الزلزالية خلال مباريات كرة القدم، مما أدى إلى تطوير مجال جديد يُعرف بـ"الزلازل الجماهيرية".
إعلان
وفي عام 2016، قامت جامعة ولاية أوهايو بتثبيت أجهزة سيسموغرافية في ملعبها "ذا شو" لقياس الاهتزازات الناتجة عن تفاعل الجماهير خلال المباريات، وأدى هذا المشروع، إلى تسجيل اهتزازات بلغت قوتها 5.79 على مقياس "قوة الزلازل الجماهيرية"، خلال مباراة ضد جامعة ميشيغان، وهي أعلى قيمة مسجلة حتى ذلك الحين.
و"قوة الزلازل الجماهيرية"، مقياس غير رسمي ابتكرته جامعة ولاية لويزيانا لتقدير "قوة الزلازل" الناتجة عن احتفالات مشجعي كرة القدم الأميركية، ويستخدم مزيجا من شدة الاهتزاز الذي تم رصده بالأجهزة (أي مدى قوة حركة الأرض نتيجة تفاعل الجمهور)، والمدة الزمنية التي استمرت فيها هذه الاهتزازات (بالثواني)، ثم يتم إدخال هذين الرقمين في عملية حسابية تعتمد على اللوغاريتم العشري.
اللوغاريتم العشري هي طريقة رياضية لتحويل الأرقام الكبيرة إلى مقياس أصغر وأسهل في التفسير، شبيه بالطريقة التي نحسب بها قوة الزلازل الحقيقية على مقياس ريختر، وكلما كانت الاهتزازات التي أحدثها الجمهور أقوى واستمرت لفترة أطول، كانت درجة القوة أعلى، أي أن "الزلزال الجماهيري" كان أقوى.
" frameborder="0">
"زلازل فاردي" في ليستر
ووجدت الفرق البحثية حول العالم في هذا النوع من الزلزال فرصة جيدة ليس فقط لإمتاع الجمهور، بل استخدمت كأدوات تعليمية رائعة لجذب الطلاب وتبسيط علم الزلازل، خاصة في مناطق نادرا ما تحدث فيها زلازل طبيعية، ومن أشهر الدراسات تلك التي أجراها طلاب من قسم الجيولوجيا في جامعة ليستر البريطانية عام 2016، تحت إشراف علماء من القسم.
قام الباحثون بتثبيت أجهزة استشعار زلزالية منخفضة التكلفة في مدرسة ابتدائية ومتحف قريب من ملعب "كينج باور"، معقل نادي ليستر سيتي، لتسجل هذه الأجهزة اهتزازات أرضية واضحة كلما أحرز الفريق هدفا، لا سيما عندما كان نجم الفريق، جيمي فاردي، يهز الشباك، لتسمى هذه الهزات شعبيا باسم " زلازل فاردي"، وهي التسمية التي انتشرت كالنار في الهشيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم التقطتها الصحافة العالمية في عشرات المقالات والتقارير التلفزيونية.
إعلان
وعلميا حصلت هذه الهزات في الدراسة -التي نشرها الطلاب بدورية "سايزمولوجيكال ريسيرش ليترز" عام 2018- على اسم "الزلازل الكروية"، وأصبح هذا المصطلح يُطلق على الاهتزازات الزلزالية الصغيرة الناتجة عن حركة جماهير كرة القدم، خاصة عند القفز الجماعي والاحتفالات الصاخبة بعد تسجيل الأهداف أو اللحظات الحاسمة في المباريات.

تجربة مباراة ليفربول
ونفذت جامعة ليفربول التجربة نفسها خلال مباراة حسم الدوري الإنجليزي التي جمعت فريق ليفربول مع توتنهام، وذلك عبر توظيف أجهزة قياس الزلازل الحساسة، وهي أدوات مخصصة لقياس اهتزازات الأرض.
ووفق بيان للجامعة، فقد استخدم الباحثون من قسم علوم الأرض والمحيطات والبيئة بجامعة ليفربول أجهزة زلزالية متطورة، مثل تلك المستخدمة في مراقبة الزلازل في المناطق النشطة زلزاليا مثل تشيلي وإيطاليا، وهذه الأجهزة قادرة على قياس أدق الاهتزازات في القشرة الأرضية التي تحدث نتيجة للأحداث البشرية، مثل هتافات جماهير الملاعب.
وتم تثبيت المستشعرات في أماكن إستراتيجية داخل ملعب أنفيلد وخارجه، بما في ذلك غرف مغلقة أسفل المدرجات لتقليل الضوضاء الهوائية، وكذلك في التربة أو الأساسات الخرسانية بعيدا عن أي اهتزازات عرضية، وحرص الفريق العلمي على تقليل التأثيرات غير المتعلقة بالجماهير مثل حركة الأفراد غير المتفاعلين مع المباراة أو مرور السيارات.
وبعد المباراة، عادت الأجهزة إلى المختبر حيث بدأ الفريق في تصفية الإشارات الزلزالية التي تم جمعها لتحديد اللحظات التي تزامنت مع أهداف المباراة، وباستخدام معادلات رياضية، قام العلماء بتحويل هذه الاهتزازات إلى قياسات على مقياس ريختر، حيث كانت الهزات الأكثر قوة هي تلك التي حدثت مع تسجيل محمد صلاح هدفه في المباراة، ووصلت إلى درجة 1.60، وهزة أخرى بدرجة 1.74، عندما سجل اللاعب أليكسيس ماك أليستر هدفا رائعا في الدقيقة 24، وهزات بدرجات أقل بالتزامن مع أهداف، مثل هدف كودي جاكبو، والهدف العكسي من مدافع توتنهام، وهدف لويس دياز المُلغى مؤقتا.
إعلان
ووصف أنطوان سيبتيير -أحد الباحثين في المشروع- هذه التجربة بأنها كانت "مثيرة"، وقال في البيان الذي أصدرته الجامعة: "لقد أظهرت التجربة كيف يمكن للعلم أن يكون ممتعا ويسهل الوصول إليه للجمهور، كما نأمل أن تلهم هذه التجربة جيلا جديدا من علماء الزلازل، وأن تبرز أهمية علم الأرض في مواجهة التحديات العالمية، مثل الحد من المخاطر الطبيعية والطاقة المتجددة".
ومن جانبها، قالت فرناز كامرانزاد، المشاركة بالتجربة: "من كان يظن أن مشجعي كرة القدم قادرون على توليد طاقة زلزالية؟ تُظهر هذه التجربة أن العلم موجود في كل مكان، حتى تحت هدير الجماهير في أنفيلد! لقد سجلنا 6 هزات أرضية صغيرة بقوة تتراوح بين 0.7 و1.75 على مقياس ريختر، وهي لا تشعر بها في المدرجات، لكنها قوية بما يكفي لتترك بصمة واضحة ومؤثرة في أرض الملعب، فكل هتاف وكل لحظة فرح تترك أثرا زلزاليا يُسجَّل في ذاكرة الأرض بعد نهاية المباراة".
بين الزلازل الأرضية والكروية
ورغم أن "الزلازل الكروية" تولد طاقة يمكن رصدها، فإن شريف الهادي، رئيس قسم الزلازل بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر، يتحفظ على وصفها في المطلق بـ"الزلازل"، ويؤكد على ضرورة أن يضاف لها الوصف الدقيق، وهو "الزلازل الكروية المستحثة"، حتى لا يحدث اختلاط عند الجمهور العام.
ويقول للجزيرة نت إن "كلمة الزلازل في المطلق، هي تلك التي تستخدم لوصف الاهتزازات التي تحدث نتيجة لتحركات طبيعية في قشرة الأرض، مثل حركة الصفائح التكتونية أو انفجار البراكين، وغالبا ما تكون ذات قوة شديدة تشعر بها المجتمعات وتسبب أضرارا ملموسة".
وفي المقابل، فإن الزلازل المستحثة، مثل الزلازل الكروية الناتجة عن احتفالات الجماهير في الملاعب، هي اهتزازات تحدث نتيجة لأسباب بشرية أو اصطناعية، وفي هذه الحالة، لا تسبب تغييرات كبيرة في قشرة الأرض، وإنما تحدث اهتزازات صغيرة يمكن قياسها بواسطة الأجهزة الزلزالية دون أن تكون قادرة على إحداث أضرار".
إعلان
وبالإضافة إلى الاختلاف في أسباب حدوث الاهتزازات بين النوعين، فإن هناك 3 اختلافات أخرى يشير إليها الهادي، منها الشدة والقوة، ويوضح: "الزلازل الطبيعية غالبا ما تكون شديدة، ويمكن أن تتسبب في أضرار جسيمة، وتبدأ قوتها من 4.0 درجات على مقياس ريختر وقد تتجاوز هذا الرقم، مما يؤدي إلى دمار واسع النطاق، وعلى الجانب الآخر، فإن الزلازل الكروية أقل شدة، حيث تتراوح قوتها بين 1.0 و2.0 درجة على مقياس ريختر، وتكون عادة غير محسوسة للبشر".
أما الاختلاف الثاني فيتمثل في "التأثيرات المكانيّة والزمنية"، إذ إن "الزلازل الطبيعية تؤثر على مناطق واسعة تمتد من مئات إلى آلاف الكيلومترات من مركز الزلزال، وتستمر عادة لفترات طويلة، تتراوح من عدة ثوانٍ إلى دقائق، أما الزلازل الكروية، فإن تأثيراتها تقتصر على مناطق صغيرة جدا، مثل الملاعب الرياضية، وتحدث هذه الاهتزازات بسرعة وتستمر لبضع ثوان فقط، ولا تؤثر على مناطق بعيدة عن المكان الذي تحدث فيه".
وأخيرا، يأتي الاختلاف في "العمق"، حيث إن "الزلازل الطبيعية تنشأ غالبا على أعماق كبيرة تحت سطح الأرض، تتراوح من عدة كيلومترات إلى مئات الكيلومترات، وتكون نتيجة لانفجار الطاقة التكتونية التي تراكمت على مدار فترات زمنية طويلة بسبب الحركات التكتونية للصفائح الأرضية، وهذه الطاقة تُحرر فجأة عندما تنكسر الصخور، مما يؤدي إلى اهتزازات شديدة قد تصل إلى سطح الأرض، أما الزلازل الكروية، فهي تحدث على سطح الأرض أو بالقرب منه، وفي هذه الحالة، لا يتطلب الأمر تفاعلا عميقا في القشرة الأرضية، وبدلا من ذلك، يتم توليد الاهتزازات مباشرة من الأنشطة البشرية، مثل احتفالات الجماهير أو الحركات العنيفة للحشود".
وانطلاقا من هذه الاختلافات، يختم الهادي قائلا: "الزلازل الكروية المستحثة، لا تعتبر زلازل بالمعنى الجيولوجي الصارم، ولكن يُستخدم هذا المصطلح مجازيا للإشارة إلى تأثيرات تلك الاهتزازات، لكنها تظل خفيفة ومحدودة مقارنة بالزلازل الطبيعية".
إعلان
0 تعليق