أكد مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء على أهمية المتابعة المستمرة ورصد وتحليل كل ما تصدره مراكز الفكر والمؤسسات الدولية ووكالات الأنباء الإقليمية والعالمية، فيما يخص تناولها لتأثيرات الأحداث الاقتصادية على المستويين الإقليمي والعالمي، مع التركيز على دراسة أبرز التوجهات والتأثيرات والآراء المتنوعة التي تتناول الشأن المصري أو تتقاطع مع اهتماماته، هذه الجهود تأتي في إطار حرص المركز على تقديم رؤية شاملة ومتكاملة لصناع القرار.
في هذا السياق، قام مركز المعلومات باستعراض مجموعة من أهم التقارير الدولية الصادرة عن وكالة فيتش ووكالة بلومبرج والبنك الدولي والأونكتاد، والتي تقدم تحليلات دقيقة وشاملة لأوضاع المشهد التجاري العالمي الراهن، وتسلط الضوء على ملامح مرحلة جديدة في مسار التجارة العالمية، وقد أشار المركز إلى أن عام 2025 سيشهد تقلبات كبيرة في التجارة العالمية، نتيجة لتصاعد النزعات الحمائية وتزايد التوترات الجيوسياسية وتغير التحالفات التجارية، مما أوجد تحديات مباشرة وغير مباشرة تواجه النظام التجاري العالمي.
في ضوء تلك التحديات، يحرص مركز المعلومات على تقديم تحليلات معمقة تساعد على فهم أبعادها وتأثيراتها المحتملة على الاقتصاد المصري، واقتراح السياسات المناسبة للتعامل معها، ويهدف المركز من خلال هذه المتابعة والرصد إلى توفير معلومات دقيقة وموثوقة تدعم اتخاذ القرارات الرشيدة في مواجهة المتغيرات الاقتصادية العالمية المتسارعة.
فيتش: تزايد القيود والتوترات التجارية
أوضح تقرير صادر عن وكالة فيتش بتاريخ 10 يوليو الجاري أن السياسات الجديدة المعلن عنها في مجال التجارة والاستثمار خلال الأسبوع الأول من الشهر، تؤكد استمرار القيود المفروضة على التجارة العالمية، وذلك في ظل مساعي الحكومات لحماية الصناعات المحلية وسط تصاعد حالة عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي، ومن أجل دعم إعادة توطين الصناعات، توجه الحكومات بشكل متزايد مساعدات مالية بهدف تعزيز القدرة التنافسية للقطاعات الاستراتيجية، وفي المقابل، يُلاحظ تخفيف تدريجي وانتقائي لبعض الحواجز التجارية، خاصة في الصناعات الاستهلاكية، مما يعكس سعيًا لتحقيق توازن بين التوجهات الحمائية والانفتاح التجاري، وذلك بهدف دعم الدول الحليفة.
بالإضافة إلى ذلك، خلال الأسبوع الأول من يوليو 2025، كان 75% من بين 12 إجراءً جديدًا واسع النطاق في السياسة الخارجية تم الإعلان عنها عالميًا، تهدف إلى تقييد التجارة العالمية، حيث تفرض هذه الإجراءات حواجز إضافية أمام التجارة الدولية وتقيد الوصول إلى الأسواق، وخلال الفترة نفسها، أعلنت خمسة أسواق رئيسية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، عن تدخلات كبيرة في السياسة الخارجية، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية والهند هما الأكثر نشاطًا في هذا المجال.
في هذا السياق، تبنت الولايات المتحدة الأمريكية نهجًا مزدوجًا، حيث قامت بتخفيف القيود على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين، وفي المقابل، فرضت رسومًا جمركية مرتفعة على الأسواق الآسيوية والأوروبية والإفريقية، وذلك استعدادًا لتطبيق رسوم متبادلة اعتبارًا من 1 أغسطس 2025، ومن بين هذه الإجراءات، فرضت واشنطن رسومًا بنسبة 50% على النحاس بموجب المادة 232، وذلك لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
كما أعلنت الإدارة الأمريكية عن تعديلات جمركية تستهدف دولًا من بينها اليابان وكوريا الجنوبية وكازاخستان وماليزيا وتونس، حيث فرضت رسومًا إضافية تتراوح بين 25% و40%، وفي المقابل، تم منح إعفاءات لأكثر من 1500 منتج من هذه الدول، وخاصة تلك التي تخضع لرسوم المادة 232.
واستمرارًا للنهج الذي تتبعه الإدارة الأمريكية في مجال السياسات التجارية، أعلن الرئيس الأمريكي في 11 يوليو 2025 عن فرض رسوم جمركية بنسبة 35% على الواردات القادمة من كندا، مع التهديد برفعها على معظم الدول الأخرى لتتراوح بين 15% و20%، وبرر ذلك بأن كندا تفرض حواجز تؤدي إلى عجز تجاري غير عادل.
ورغم الاستثناءات الجزئية التي شملت بعض السلع ضمن اتفاقية (USMCA)، ظل قطاعا الفولاذ والألمنيوم خاضعين لرسوم تصل إلى 50%، كما تم استثناء قطاع السيارات جزئيًا نظرًا للعلاقات المتينة بين السوقين.
وفي تطور أكثر حدة، أشارت صحيفة فايننشال تايمز في تقرير نشرته في 9 يوليو 2025 إلى أن الرئيس الأمريكي ترامب فرض رسومًا بنسبة 50% على السلع البرازيلية، مما أدى إلى انهيار قيمة الريال البرازيلي وتراجع سوق الأسهم هناك، وجاء هذا التصعيد على خلفية محاكمة الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، وسط تهديدات بفتح تحقيق تجاري ضد البرازيل.
وفي هذا السياق، رفض الرئيس البرازيلي الحالي “لولا دا سيلفا” هذه الضغوط، وتوعد بالرد بالمثل بموجب قانون المعاملة بالمثل، مؤكدًا أن البرازيل لن تقبل الإملاءات.
على صعيد آخر، لفتت وكالة فيتش الانتباه إلى إعلان الهند في 3 يوليو 2025 عن نيتها تعليق بعض التنازلات الممنوحة للولايات المتحدة الأمريكية بموجب اتفاقية الضمانات في منظمة التجارة العالمية، وذلك ردًا على استمرار الأخيرة في فرض رسوم جمركية على سيارات الركاب الهندية، مما يكشف عن تصاعد حدة المواجهة التجارية بين البلدين.
ووفقًا لوكالة فيتش أيضًا، دخلت الصين والاتحاد الأوروبي في دوامة من القيود والإجراءات الانتقامية، حيث فرضت الصين رسوم إغراق بنسبة 32.2% على منتجات النبيذ والبراندي الأوروبي، كما فرضت قيودًا على المشتريات الحكومية من المعدات الطبية الأوروبية، وذلك ردًا على إجراءات أوروبية مماثلة.
الأثر الاقتصادي للرسوم وحالة عدم اليقين بشأن السياسات
أشارت مجلة الإيكونوميست في تقرير نشرته بتاريخ 9 يوليو 2025 إلى أنه قبل نحو ثلاثة أشهر، أدى إعلان الرئيس الأمريكي عن رسوم جمركية جديدة إلى حدوث هزة مؤقتة في الأسواق المالية، إلا أن ردود الأفعال اللاحقة اتسمت بالفتور، وهو ما تجلى بوضوح في 7 يوليو 2025، عندما لوّح الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية “متبادلة” على 14 دولة، تراوحت بين 25% على اليابان وكوريا الجنوبية، و50% على النحاس، و200% على الأدوية، دون أن يتم تسجيل أي تأثير واضح في الأسواق العالمية.
وترى الإيكونومست أن هذا الهدوء في ردود الأفعال قد أثار تساؤلات متعددة، حيث اعتبر البعض أن الرئيس الأمريكي لا يعتزم تنفيذ هذه التهديدات على أرض الواقع، بينما رأى آخرون أن التأثير الاقتصادي لهذه الرسوم ليس بالقدر الكارثي الذي كان متوقعًا في السابق، فيما افترض فريق ثالث أن الرئيس الأمريكي سيتراجع عندما تظهر العواقب السلبية، إلا أن هذه التفسيرات الثلاثة تبدو غير دقيقة عند مقارنة التصريحات بالتطبيقات الفعلية للسياسات الجمركية، حيث استمرت الرسوم الجمركية في الارتفاع، وبلغ متوسطها حتى الآن 10% مقارنة بـ 2.5% في العام الماضي، مع توقعات بزيادتها إلى 17%، وحتى الاتفاقيات الجديدة التي أبرمتها الولايات المتحدة الأمريكية مع دول مثل بريطانيا وفيتنام، فقد احتفظت بمستويات مرتفعة من الحواجز الجمركية مقارنة ببداية العام.
وتشير البيانات إلى أن هذه السياسات بدأت بالفعل في إحداث ضرر ملموس على الاقتصاد الأمريكي، حيث تباطأت وتيرة الاستهلاك والمبيعات، ومن المتوقع أن يشهد النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة خلال العام الجاري تراجعًا إلى نصف مستواه المسجل في عام 2024، وعلى الرغم من أن التضخم لا يزال تحت السيطرة نسبيًا، إلا أن مؤشرات ارتفاع الأسعار بدأت في الظهور، نتيجة لاقتراب نفاد المخزون المستورد، وهو ما قد يؤدي إلى تجاوز التضخم مستوى 3%.
ووفقًا للإيكونومست، فإن الاعتماد على فرضية تراجع الرئيس الأمريكي قبل وقوع الأضرار يمثل مخاطرة بحد ذاته، وذلك لأن غياب ردود الأفعال من الأسواق على تهديداته يشجعه على المضي قدمًا، كما أن الزيادة التدريجية في الرسوم تخفي جزءًا من الأثر السلبي، مما يؤدي إلى تآكل بطيء في النمو الاقتصادي، على غرار ما شهدته بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وإذا كان الرد الانتقامي من الدول الأخرى محدودًا حتى الآن، فإن توجه الرئيس الأمريكي نحو تحويل السياسات التجارية إلى مفاوضات ثنائية دائمة لا يخدم الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل، إذ يدفع ذلك الشركات إلى التركيز على النفوذ السياسي بهدف الحصول على امتيازات، بدلًا من العمل على تحسين الكفاءة أو الابتكار، مما يشكل تهديدًا هيكليًا لأداء الاقتصاد الأمريكي، بحسب الإيكونومست.
وفي ظل هذه البيئة التي تكتنفها حالة من عدم اليقين، قد يتأخر إدراك التأثير الحقيقي لهذه الرسوم، إلا أن المؤكد هو أن الأضرار ستظهر تباعًا، وقد يكون التآكل التدريجي للنمو غير ملحوظ مثل الأزمات المباشرة، ولكنه يحمل خطورة لا تقل عنها، وقد يقوض في نهاية المطاف استقرار الاقتصاد الأمريكي على المدى البعيد.
تباطؤ نمو التجارة العالمية وسط تزايد المخاطر
أوضح البنك الدولي في تقرير له أن التجارة العالمية، التي بدأت بقوة مع بداية عام 2025 مدفوعة بعمليات الشحن الاستباقية قبل فرض التعريفات، تشهد الآن تباطؤًا حادًا، ويتوقع البنك أن ينخفض نمو التجارة من 3.4% في عام 2024 إلى 1.8% في عام 2025، وهو ما يمثل أقل من نصف متوسط النمو الذي تحقق خلال العقدين السابقين على جائحة كورونا.
وعزا البنك الدولي أبرز أسباب هذا التباطؤ إلى الزيادة الحادة في الرسوم الجمركية والإجراءات الانتقامية، بالإضافة إلى اضطرابات سلاسل التوريد وارتفاع مستوى عدم اليقين بشأن السياسات.
وفي سياق متصل بتقديرات وتوقعات البنك الدولي، أشارت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في تقرير لها إلى أن التجارة العالمية قد شهدت نموًا معتدلًا في الربع الأول من عام 2025، حيث أظهرت بيانات التجارة العالمية في الربع الأول من عام 2025 نموًا بنسبة 1.5% على أساس ربع سنوي، وبنسبة 3.5% على أساس سنوي، وقد بلغ نمو التجارة في الخدمات سنويًا حوالي 9%، مما يعكس الديناميكية التي يتمتع بها هذا القطاع.
ولا تزال التقديرات الآنية الصادرة عن الأونكتاد إيجابية بالنسبة للربع الثاني من عام 2025، حيث تشير إلى نمو على أساس ربع سنوي بنحو 2% في كل من قطاعي السلع والخدمات، وهو ما يعزز التوقعات الإيجابية للنصف الأول من عام 2025.
ومع ذلك، فإن استمرار نمو التجارة في النصف الثاني من العام الجاري يعتمد على مدى وضوح السياسات العالمية والتطورات الجيوسياسية، بالإضافة إلى قدرة سلاسل التوريد على التكيف، ومن المتوقع أن يشهد النمو الاقتصادي العالمي تباطؤًا، وهو ما قد ينعكس سلبًا على التجارة، وتشير بعض المؤشرات، مثل انخفاض مؤشر مديري المشتريات في الصين، إلى احتمال حدوث تراجع في النشاط الصناعي.
في المقابل، يوفر التكامل الإقليمي بعض الدعم، على الرغم من بقاء مؤشرات الشحن البحري دون المتوسطات المسجلة في عام 2024.
ووفقًا لتقديرات الأونكتاد، هناك عدد من المخاطر المستقبلية التي قد تعيق نمو التجارة العالمية، ومن أبرزها استمرار الغموض بشأن السياسة التجارية الأمريكية، بالإضافة إلى أن زيادة السياسات الصناعية الحمائية قد تؤدي إلى احتكاكات تجارية أوسع نطاقًا، وخاصة إذا اتخذت الدول الأخرى إجراءات انتقامية.
ختامًا، تكشف الرؤى الصادرة عن المؤسسات الدولية أن التجارة العالمية تقف اليوم عند مفترق طرق، فبينما يسعى البعض إلى الحفاظ على قواعد النظام التجاري متعدد الأطراف، تتصاعد في المقابل النزعة الأحادية والصفقات الثنائية القائمة على ممارسة الضغوط.
ويبدو أن التجارة الدولية باتت مهددة بفقدان عنصري الشفافية والاتساق على المدى الطويل، وفي ظل هذه المعطيات، لن تقتصر عواقب ارتفاع الرسوم والحمائية على مجرد تباطؤ النمو الاقتصادي، بل قد تتعدى ذلك لتعيد تشكيل خريطة التجارة العالمية بالكامل، وتفرض واقعًا جديدًا يتطلب إعادة صياغة التحالفات وتعديل قواعد اللعبة الدولية.