منذ أكثر من قرن مضى، تناول أنطونيو غرامشي إشكاليات جامعاتنا، مسطرًا قوله بأن المجتمع برمته يصبو إلى أن تكون المدرسة حاضنة لتكوين أفراد مؤهلين، قادرين على أداء دور فعال ومفيد للجميع، ولا يرغب إطلاقًا في أن تتحول المدرسة إلى مجرد جهة مانحة لشهادات لا قيمة لها،
غرامشي وفضيحة التعليم
في الثالث عشر من أبريل عام 1917، خط أنطونيو غرامشي مقالًا بجريدة “أفانتي” الإيطالية، معنونًا بـ “امتيازات المدارس الخاصة: من أجل حرية المدرسة وحرية أن يكون المرء حمارًا”، حيث كان غرامشي آنذاك يرد على رجال الدين الذين أطلقوا رسالة مفتوحة دفاعًا عما أسموه “المدرسة الحرة”، أي المؤسسات التعليمية الكاثوليكية الخارجة عن رقابة الدولة، ولأن النص يبدو اليوم وكأنه كُتب عن فضيحة تعليمية معاصرة، كما نشهد في المغرب من تجاوزات في الجامعة، مثل “الماسترات المغشوشة” و”بيع الشواهد الجامعية”، فإن إعادة قراءة مقال غرامشي تمنحنا أداة تحليلية دقيقة، ليس فقط لفهم ما جرى، بل لاستخلاص الجوهر العميق الذي يعيد إنتاج الفضيحة ذاتها عبر مختلف الظروف،
في الحالة التي تناولها المفكر الإيطالي، وفي واقعنا الحالي بمؤسسات التعليم العالي، يتمحور النقاش حول الشهادة،
فمن الجهة المخولة بمنحها، ومن الذي يراقب معايير الحصول عليها، وهل يجوز أن نطلب من طالب أن يكد ويجتهد ويضحي، بينما نتجاهل طالبًا آخر لا يملك سوى النفوذ أو المال أو المكانة الاجتماعية الرفيعة،
الشهادة كقيمة اجتماعية
لا يقتصر تأثير هذا السؤال على المدرسة وحدها، بل يمتد ليشمل المجتمع بأكمله، فالشهادة الدراسية ليست مجرد وثيقة شخصية، بل هي قيمة قابلة للتداول، فكما أن العملة المزيفة تزعزع استقرار السوق، فإن الشهادات المزورة تفكك النظام الاجتماعي، وتعيد تشكيل الهرم بشكل معكوس، حيث يترقى الأقل كفاءة بينما يُهمش من لا يملكون سوى جهدهم، وبما أن قيمة الشهادة، كالعملة، لا تُقاس بحبرها، بل بالثقة المجتمعية بها، فإن انهيار هذه الثقة يؤدي، كما بين غرامشي، إلى تدهور في توزيع الأدوار الاجتماعية، وتحول المدرسة من منبر للمعرفة إلى “مصنع لإنتاج الحمير”، معترف بهم رسميًا ومؤهلين لتولي المناصب العامة،
بما أن المجتمع، كما يرى غرامشي، هو من “يدفع ثمن البيروقراطية المتضخمة والكسولة”، فإنه وحده من يحق له الإشراف على منح الشهادات، فأي تقصير في هذا الإشراف يعني ببساطة إيجاد طبقة طفيلية تتغلغل في مفاصل الدولة وتقتات على جهود الآخرين، وهذا ما يجعل “المدرسة الحرة” ليست رمزًا للحرية، بل أداة لتكريس الامتيازات، ونشر الغش، ومنح الأفضلية لمن لا يستحقها،
الشهادة بين التزوير والاختراق
ما الفرق بين تزييف عملة ورقية ومنح شهادة جامعية دون استحقاق، الفرق تقني فحسب، فالأولى جريمة يعاقب عليها القانون، بينما الثانية اختراق “مقنن” للمجال العام، قد لا يكتشفه أحد، ولكنه يكلف الجميع ثمنًا باهظًا ودائمًا، فعندما يصبح الحصول على شهادة مرموقة مسألة نفوذ أو قرابة أو ولاء حزبي أو مذهبي، تتحول الشهادة إلى سلعة، ويصبح التعليم سوقًا سوداء، والأسوأ من ذلك أن التضخم لا يمس قيمة الشهادة فحسب، بل يزعزع الثقة المجتمعية التي يقوم عليها العقد الاجتماعي، إذ لا يضمن أحد أن الدكتور الذي أمامه ليس في الواقع سوى نسخة مطورة من “حمار العائلة”، كما وصفه غرامشي بتهكم،
حينما تخترق الجامعة، والمدرسة عمومًا، من قبل جماعات متنفذة، أو تحاول إزاحة الفاعلين الأساسيين لتحل محلهم، أو على الأقل توجيههم (كما كان حال التكتل الكاثوليكي في زمن غرامشي، وتكتلات المال والنفوذ والمصالح في عصرنا)، يتحول التعليم من وسيلة للتقدم إلى واجهة للتمييز، وتكريس للصراع الطبقي المقنع، فكم من فتاة في قرية نائية تبذل جهدًا مضنيًا للوصول إلى درجة الماجستير في القانون، وتقدم بحثًا جادًا وتنجح بصعوبة، لتتفاجأ بمن يشاركها المقعد والمرتبة، ليس لشيء إلا لأنه ابن فلان، أو لأن “حزب العائلة” قد حسم قائمة الاختيار قبل الإعلان عن المسابقة،
يقول غرامشي: “هؤلاء لا يكتفون بسك عملة تمر عبر قنوات الدولة، بل يريدون أيضًا أن يسكوا عملة مزورة، الكثير من العملة المزورة، ليغرقوا بها السوق بأكملها”، ألا تعكس هذه العبارة، بدقة مدهشة، وضع التعليم العالي عندما تمنح شهادات الماجستير والدكتوراه في مؤسسات خاصة أو شبه رسمية لا تخضع لأي رقابة فعلية، وتسوق نتائجها في سوق العمل العام وكأنها شهادات أصلية،
إذن، المشكلة ليست مجرد حالة فردية، بل هي نظام متكامل، في دولة لا تزال تتسامح مع من يمنحون الشهادات دون ضمانات، وتمنحهم الحق في دخول السوق نفسه الذي يدخله من اجتهدوا حقًا، هنا لا تكون المدرسة الحرة فضاءً للحرية، بل آلية لفرض امتيازات طبقية جديدة، مغلفة بخطاب ديني أو أيديولوجي، بينما جوهرها الاقتصادي واحد: ضمان توزيع زائف للثروة والسلطة والكفاءة،
في النهاية، يحذر غرامشي قائلًا: “عندما تمنح الشهادات بسخاء لمن لا يستحقونها، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى تضخيم البيروقراطية الطفيلية، وتعميق الشعور بالضيق في الحياة العامة”، أما نحن، بعد أكثر من قرن، فليس لنا إلا أن نعيد الصياغة: عندما تشرع الشهادات الزائفة، يصبح الحمير دكاترة، وتبنى بهم مؤسسات كاملة، يعلمون فيها غيرهم كيف يكون الحمار مؤهلًا للترقي الاجتماعي،
لماذا غرامشي اليوم؟
ما الداعي للعودة إلى غرامشي اليوم، ليس لأنه جزء من الماضي، بل لأن ما وصفه في عصره أصبح هيكلًا ثابتًا في حياتنا: تسليع المعرفة، تزوير الشهادات، واحتكار الرمزية الأكاديمية كما يحتكر المال، ففي المغرب، لم تعد الشهادة مؤشرًا على الكفاءة، بل أصبحت في كثير من الأحيان أقرب إلى عملة ورقية مزورة يتم تداولها في سوق ملوثة، وتمنح لمن يملك شبكة نفوذ وليس لمن يمتلك العقل أو الجهد،
إن قضية “الماسترات المزورة” ليست استثناء، بل هي علامة على مرض هيكلي: تضخم عدد الشهادات يقابله تدهور في قيمتها الحقيقية، كما يحدث مع التضخم النقدي عندما تغرق السوق بأوراق لا أساس لها، إننا نعيش اليوم وضعًا تنهار فيه القيمة التداولية للشهادة، ويصبح الحصول عليها مجرد إجراء إداري لا يؤدي إلى إنتاج معرفة أو بناء كفاءة، بل إلى إعادة إنتاج الفشل،
لكن العملة المزيفة ليست سوى الوجه الأبسط للمشكلة، الوجه الأكثر وضوحًا، فخلفها يكمن هيكل السوق، وسلوك التداول، ومعادلات العرض والطلب، ومواقع البائع والمشتري، فالشهادة المزورة تعني، في جوهرها، مؤسسة مزيفة تمنحها، وتضفي الشرعية على من لا يستحقها، وبالتالي تنتج شخصًا لا يمتلك الكفاءة، ولا يمتلك من صفات “الإطار” إلا مسماه الوظيفي، إنه، كما وصفه غرامشي بوضوح، “حمار الامتياز” الذي لا تنقصه الشهادة الرسمية، بل تنقصه القدرة العقلية،
والنتيجة هي سوق مزيفة، لا قيمة فيها للشهادة، لأنها لا تعكس أي خبرة أو كفاءة، بل تنتج نظامًا زائفًا للتقدم الاجتماعي،
فإذا لم تكن الشهادة مرآة للجهد والمعرفة، وأصبحت وسيلة للترقية، فإن المجتمع بأكمله ينزلق نحو إعادة إنتاج الرداءة تحت غطاء قانوني، تمامًا كما يتم إعادة إنتاج النقود المزيفة في ظل مؤسسات مالية متواطئة،
لقد أدرك غرامشي خطورة هذا الانفصال بين الشكل والمضمون: بين الورقة التي تمنح والجهد الذي لا يبذل، فقد رأى أن أخطر ما يمكن أن تفعله جماعة مهيمنة هو تزييف نظام التبادل الرمزي، وتحويل العملة إلى “نفايات”، والشهادة إلى مجرد حبر على ورق، وإغراق الفضاء العام بامتيازات وهمية توزع على الزبائن وليس على المواطنين،
لذا، فإن الدفاع عن المدرسة، من وجهة نظر غرامشي، هو دفاع عن المجتمع نفسه، لأن المدرسة ليست مجرد مرفق خدمي، بل هي أداة لإعادة الإنتاج، إما أن تعيد إنتاج الكفاءة، أو تعيد إنتاج الرداءة، وفي المغرب، حيث يتقاطع منطق الكهنوت القديم مع منطق الزبونية الحديثة، تصبح معركة الشهادة هي معركة القيمة، معركة النقد، معركة الكرامة،
وفي عصر الذكاء الاصطناعي، تتضاعف الحاجة إلى هذا النقاش، فإذا كانت الآلة قادرة على الكتابة، فمن يضمن أن يحمل الإنسان شهادة عن جدارة، وإذا كان من الممكن شراء الشهادة كما تشترى الأصوات، فمن يحمي القيمة الرمزية للمعرفة،
ربما لا نمتلك بعد الأدوات الكاملة لتحليل هذا الواقع، لكننا نملك شيئًا مهمًا: وعيًا متزايدًا ينبهنا إلى أننا نقف أمام لحظة فاصلة، إما أن نعيد للشهادة قيمتها، أو نعيش في مجتمع تدار فيه المؤسسات كما تدار الأسواق الرمادية، وتقاس فيه القيمة بما تعرف لا بمن تعرف،
وهذا هو الدرس الأهم من غرامشي: أن نحلل الهياكل الرمزية التي تنتج الزيف، لا أن نكتفي بوصف أعراضه،