يوميات حاج: الحج على المكشوف.. كله واحد قدام ربنا!

يوميات حاج: الحج على المكشوف.. كله واحد قدام ربنا!

جوهر الإحرام

الإحرام ليس مجرد تغيير ملابس، بل هو تجرّد عميق من كل ما علق بالإنسان من هويات مصطنعة، حين يرتدي الحاج الإزار والرداء، هو لا يمثل فقرًا أو غنى، لا منصبًا أو وظيفة، بل يقف متخليًا عن كل الأسماء التي اكتسبها، الإحرام هو لحظة التحرر الأعظم، الخروج من القالب الاجتماعي، والعودة إلى الذات الطاهرة التي لا تعرف إلا خالقها،.

في هذه اللحظة الروحانية، تتلاشى ضوضاء المدن، وتُطوى تفاصيل الحياة اليومية، وتُغلق سجلات الإنجازات المادية، لا يعود للاسم أهمية، ولا للجنسية قيمة، الجميع يصبح “عبدًا لله” فقط، ما كان بالأمس مصدر فخر وقوة، يصبح هنا بلا وزن أو تأثير، رجل الأعمال، التاجر، الخادم، والعامل، كلهم يقفون سواسية في الميقات، في صف واحد أمام عظمة الخالق،.

بوابة العبور والتحرر

الإحرام ليس مجرد فريضة، بل هو معبر إلى عالم آخر، إلى فضاء لا تحكمه الساعات، بل الخفة الروحية، كم حملت معك من أعباء الدنيا، وكم تخلصت منها الآن، هو إعلان عن رحلة داخلية عميقة، وقطع جذور مع صخب الحياة، صخب التملك، صخب التعريفات، وصخب الذات المنتفخة،.

وقد قال الرسول ﷺ: “مَن حَجَّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه”،.

الإحرام هو بمثابة رحم رمزي جديد، بداية لحياة جديدة، بشروط مختلفة، وبقلب متجدد،.

بساطة اللباس ومعنى الوحدة

في هذا الثوب الأبيض البسيط، الخالي من أي تزيين، يكمن سر عظيم، لا يراك أحد إلا على حقيقتك، لا كما تحاول أن تظهر، تسقط الأقنعة الزائفة، وتتجلى ملامح الضعف الإنساني بجمالها الصادق، حتى لغة الجسد تتبدل، يمشي الحاج بخفة، كأنه لا يحمل سوى روحه، ولا يطلب من الأرض إلا أن تحتضنه برفق في طريقه إلى النور،.

في الإحرام، تتلاشى الفوارق بين البشر، اللون الأبيض يوحد القلوب، لا يفرقها، الطقوس تجمع، لا تميز، هذا هو جوهر الدرس الإنساني، أن أصلنا واحد، وكل ما اكتسبناه بعد الميلاد ما هو إلا زينة زائفة،.

لحظة التجلي والنداء الداخلي

إنها لحظة فاصلة، حين تقف على أعتاب الحرم وأنت مُحرم، تشعر بأنك أصبحت أكثر حساسية للمعنى، شيء في داخلك يهتز، ليس خوفًا، بل إجلالًا وخشوعًا، كأنك على وشك الدخول إلى لب الحياة، أن تنظر إلى وجه الله بقلب متجرد من كل شيء، وحين ترفع صوتك بالتلبية،.

“لبيك اللهم لبيك”،.

أنت لا تجيب على نداء خارجي، بل صدى لنداء استقر في أعماقك منذ الأزل، ولم تسمعه بوضوح إلا الآن،.